شْكُون نتا؟” .. عندما أجاب آيت يدر الملك الراحل الحسن الثاني: “أنا بنسعيد

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

شكرا لمتابعتكم خبر “شْكُون نتا؟” .. عندما أجاب آيت يدر الملك الراحل الحسن الثاني: “أنا بنسعيد”

بهذه العبارة النابضة بعزة النفس أجاب محمد بنسعيد آيت يدر الملك الراحل الحسن الثاني عليهما رحمة الله، لما سأله الملك: “شكون أنت؟”. حدث هذا بالإقامة الملكية بفاس أثناء توديع الوفد المغربي المشارك في أشغال مؤتمر البلدان الإفريقية، وحضره الأمناء العامون للأحزاب المغربية الذين سيشاركون في تلك القمة المنعقدة بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

كانت العادة الثابتة حينها هي الانحناء وتقبيل يد الملك وكذلك فعل زعماء الأحزاب السياسية كل ودرجة اجتهاده؛ لكن حينما حل دور بنسعيد اكتفى فقط بوضع يده على كتف الحسن الثاني وانصرف، وهو الأمر الذي فاجأ الحاضرين وعلى رأسهم الملك الراحل الذي سأله ذلك السؤال الاستنكاري.

إنه المقاوم الصلب الذي صال وجال في جبال المغرب وسهوله مقاتلا في صفوف جيش التحرير الوطني حتى كاد أن يفقد حياته بضواحي مدينة كلميم عقب اجتماع للمقاومة، والسياسي المتمترس خلف قناعاته لا يزحزحه عنها إغراء ولا تهديد، فظل ثابتا على مبادئه ومواقفه فحكم غيابيا بالإعدام بعد الاستقلال.

لقد وصف آيت يدر الكثير من الأحداث التي وقعت بعد الاستقلال بالفرص المهدورة، لا سيما بعدما أصبحت فئات من خارج الصف الوطني الذي قاد معركة النضال من أجل الاستقلال ـ بقدرة قادر ـ العمود الفقري لبناء مؤسسات وأجهزة النظام الجديد. مستغربا قبول فصائل الحركة الوطنية لأنصاف الحلول، فاعتبر ـ رحمه الله ـ أن حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال يتحملان نصيبا كبيرا من المسؤولية لما آلت إليه الأوضاع بعد الاستقلال.

لم ينل اليأس من المناضل محمد بنسعيد آيت يدر في إصلاح أوضاع المغرب؛ بل دفعه ذلك إلى الانخراط في المبادرات التي ترنو ذلك عبر مسار سياسي طويل، فأسهم في تأسيس العديد من الهيئات السياسية والجمعوية ابتداء بمنظمة 23 مارس التي شارك في ظهورها وهو في فرنسا، كما أسس بعد عودته إلى المغرب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي سنة 1983 وأصبح أمينها العام ونائبها البرلماني عن دائرة اشتوكة آيت باها في الانتخابات التشريعية لسنة 1984، فأصبح المحكوم بالإعدام بالأمس نائبا برلمانيا اليوم يجالس أقطاب النظام ويحاورهم.

يحكي بنسعيد كيف كان يتم تشكيل الحكومات في تسعينيات القرن الماضي، حيث يقول في مذكراته “هكذا تكلم محمد بنسعيد” صفحة 249:

“ووقع في التسعينيات أثناء تشكيل إحدى الحكومات أن فرضت السلطات خمسة أسماء من الموظفين التقنوقراط كانوا قد برزوا في تلك الآونة على أحزاب إدارية، حتى حزب التقدم والاشتراكية لم ينجُ هو الآخر من ذلك حين فرضوا عليه وزيرا للصحة من خارج صفوفه. وقد حدث أن أعلن كل من أحمد عصمان والمحجوبي أحرضان احتجاجهما على فرض أسماء أسقطها وزير الداخلية عليهم في التشكيلة الوزارية؛ لكن احتجاجهم ذاك لم يكن له صدى يذكر. وعندما اشتكى لنا عصمان من هذا السلوك الخارج عن إطار القانون القاضي بضرورة أن يتوفر المرشح على تزكية من حزبه، طرحنا أنا وعبد الرحمان اليوسفي الموضوع على أحمد رضا اكديرة مدير ديوان الحسن الثاني وفهمنا من جوابه أن الملك داخل في هذه اللعبة”.

استمر تواجد بنسعيد آيت يدر في البرلمان لمدة 23 سنة طرح فيها قضايا متعددة، من أبرزها معتقل تازمامارت وقضية المعتقلين السياسيين بالمغرب، الأمر الذي جلب عليه متاعب عديدة حتى من بعض رفاقه المقربين الذين رأوا في طرح هذين الموضوعين مجلبة لانتقام النظام عليهم وعلى جريدتهم “أنوال”.

وبعد ذلك أسهم بنسعيد في تأسيس الكتلة الديمقراطية سنة 1992 التي ضمت أحزاب الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان الهدف من تأسيسها هو ضمان سيادة منطق الإصلاح في تعامل مكونات الفضاء العمومي، من دولة ومؤسسات وأحزاب ونقابات، والارتقاء بالحياة السياسية إلى مجال أوسع سماته الشفافية الانتخابية، وانفراج الوضع السياسي، والشروع في بناء الشروط السياسية للمجتمع الديمقراطي. لكن دستور سنة 1996 تسبب في تصدع الكتلة وانشقاقها، فقد رأى بنسعيد الوقوف في وجه ذلك الدستور لأن الكتلة الديمقراطية وقتها كانت قوية إلى درجة أن بإمكانها حشد الرأي العام خلف أي اختيار تختاره، ولو وقفت ضد دستور 96 لساندتها أغلبية الشعب المغربي، ولكانت وضعت أسس مرحلة ديمقراطية بامتياز؛ فالمغرب وقتها كان في عنق الزجاجة والملك اعترف بنفسه بأن البلد مهدد بالسكتة القلبية، فوقع أن تمت التضحية بالكتلة الديمقراطية.

فجرى توقيف جريدة “أنوال”، لسان حال حزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وتم التفاوض مع محمد بنسعيد آيت يدر ليتراجع عن موقفه القاضي بمقاطعة الاستفتاء عن دستور 1996؛ لكنه أصر على رأيه وسط تهديدات مبعوث القصر الملكي الذي لم يكن غير وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري رحمه الله، واختُرق حزب بنسعيد ووقع فيه انشقاق بين قابل للاستفتاء وبين رافض له.

إن هذه الأحداث التاريخية تبرز معدن رجل آمن بقول رأيه والإصرار على قناعاته والدفاع عنها. لم يكن بنسعيد من الذين يتوقون إلى قطف ثمار نضالهم الطويل قبل الاستقلال وبعده، ولو أراد الرجل ذلك لدخل الحكومات المتعاقبة وتمرغ في نعم السلطة وإغراءاتها؛ لكنه آثر الطريق الصعب الذي يفتقده مشهدنا السياسي الحالي. لقد أدرك أن الاستعمال المتكرر لفكرة الانتقال الديمقراطي دون ترجمته على أرض الواقع بتوزيع ديمقراطي للسلطات هو فخ رفض الوقوع فيه، وأن هذا الانتقال يتطلب أفقا واضحا ومراحل زمنية متفقا عليها.

أراد بنسعيد أن تتسم الأحزاب السياسية بالمغرب باستقلالية قرارها، وأن تتفادى العوامل التي تسعى إلى إضعافها سواء من الداخل أو الخارج. وهكذا، رفض قبول استراتيجية الانصياع والتسخير ومنح التمثيلية للأحزاب من الأعلى، كما ناضل من أجل وجود إيديولوجيات واضحة المعالم للأحزاب المغربية. لذلك، سعى إلى توحيد اليسار، بعد فشل تجربة الكتلة الديمقراطية.

لن يحزن لفراق وفقد محمد بنسعيد آيت يدر قبيلته اليسارية فقط بل كل أحرار هذا الوطن، الجميع سوف يعزي ويتلقى العزاء.

فما كان قيسٌ هُلكُه هُلك واحدٍ —- ولكنه بُنيانُ قوم تهدما

ينطبق هذا البيت الشعري على محمد بنسعيد آيت يدر رحمه الله وعلى غيره من قادة النضال الوطني وزعماء الأحزاب السياسية الأحياء أو الذين سبقوه للدار الآخرة؛ فهم لَبِنات لبنيان ديمقراطي منشود.

‫0 تعليق